الصورة

الثورة البلشفية وتطور الاتحاد السوفياتي

بحلول الحرب العالمية الأولى ومشاركة روسيا فيها إلى جانب الحلفاء انهار الحكم القيصري المتأزم. واغتنم حزب البوشلفيك نقمة الجماهير الروسية لتأطيرها والاستيلاء على السلطة. وبعد تكوين الاتحاد السوفياتي عرفت البلاد تحولات كبيرة غيرت بنية المجتمع وتركيبه في إطار الاشتراكية السوفياتية.

1-الثورة الروسية : ظروفها ومراحلها

1-1 أفرزت الوضعية الداخلية لروسيا القيصرية تناقضات وصراعات حادة

أ‌- احتدت الفوارق بين الفئات المركبة للمجتمع الروسي، وهيمن الرأسمال الأجنبي على حركة التصنيع في البلاد

كانت روسيا القيصرية تمتد على مساحة 22 مليون كيلومتر مربع، وبلغ عدد سكانها سنة 1914 حوالي 174 مليون نسمة.

كانت الفلاحة تشكل النشاط الاقتصادي الأساسي الذي يعيش منه، بشكل مباشر، أكث من 85% من سكان روسيا. وسيطرت الفيودرالية الروسية التي بلغ عدد أفرادها حوالي مليون نسمة على أجود الأراضي، وكانت تصدر أغلب إنتاجها نحو دول أوروبا الغربية. واحتمرت عناصرها الوظائف الرئيسية في أجهزة الدولة كالجيش ومجلس الدوما (البرلمان الروسي)، وتمتعت بامتيازات وراثية.في حين كان أغلب الفالحين الروس عرضة لمجاعات دورية وأوبئة وأشكال مختلفة من القهر.

وعبر الأقنان هن وضعيتهم ومطالبهم بواسطة انتفاضات متعددة ومتفاوتة الأهمية، جعلت البوادي الروسية في توتر مستمر. واستمر ذلك إلى سنة 1905 حيث قامت انتفاضة واسعة، على اثر انهزام الجيوش القيصرية أمام اليابان. فاضطر النظام القيصري إلى سن بعض الاصلاحات وزع خلالها أراضي على أقلية من الفلاحين لخلق فئة وسطى في البوادي (الكولاك)، بهدف التخفيف من المواجهة القائمة بين الفلاحين الفقراء(الموجيك) والملاكين الكبار. لكن هذا الاجراء لم يخفف من أزمة البوادي ومن مطالبة الفلاحين بالأرض.

وبالمقارنة مع التطور الذي عرفته دول غرب أوروبا، تميزت حركة التصنيع في روسيا بالبطئ.وكان السبب الأساسي في ذلك هو نمط الانتاج السائد في البوادي، والذي عجر عن توفير فائض كاف لتطوير المبادلات الداخلية والقيام باستثمارات صناعية. واستمر هذا التطور البطيء إلى حوالي 1910 حيث عرفت روسيا توسعا صناعيا، بسبب ارتفاع أسعار المواد الفلاحية المصدرة، واستعداد البلاد للحرب التي ظهرت مؤشراتها.

وارتبط النمو الصناعي في روسيا بالرساميل الأجنبية التي سيكرت على ثلث رأسمال الشركات الصناعية ونصف رأسمال الأبناك الكبرى. وفرضت حالة التعبئة على الاقتصاد الروسي، إذ احتكر الأجانب (فرنسا وبريطانيا وبلجيكا...) 85% من الاستثمارات المعدنية و33% من الاستثمارات في قطاع النسيج 90% من الاستثمارات في قطاع النقل البحري...

ومست حركة التصنيع بنوع من التكثف مدنا ومناطق من أهمها سان بترسبورغ وموسكو وحوض الدوناس والقوقاز. فظهرت بأهم المدن الروسية بورجوازية حديثة وطموحة، ولكنها شديدة الارتباط بالرأسمالية الأوروبية وتابعة لها.

وأدت حركة التصنيع إلى تكوين طبقة عاملة بلغت حوالي ثلاثة ملايين نسمة في بداية القرن العشرين، وتمركزت أساسا بالمدن الكبرى. وتميزت وضعيتها بالبؤس الشديد الناتج عن كثرة ساعات العمل اليومية وضعف الأجور والتشغيل الواسع للأطفال والنساء.

ب‌- أدى تشبت النظام القيصري بمبادئ الحكم الفردي إلى انعزاله وتعدد الحركات المناوئة له

تميز حكم نيقولا الثاني بالطابع الفردي المطلق بجمع كل السلطات بين يديه، فهو الائد السياسي والروحي للبلاد، الذي يشرع، ويعين الموظفن والوزراء، ويصدر الأحكام، ويعلن الحرب.

وكان الحكم القيصري يمثل مصالح الملاكين الكبار التقليديين الذين تقلص نفوذهم الاقتصادي مع استفحال الأزمة في البوادي وبداية حركة التصنيع.

وبعد انهزام الجيش الروسي أمام اليابان في حرب 1905 وبفعل ضغط الانتفاضة الشعبية، قبل الحكم القيصري إنشاء مجلس وطني بمثابة برلمان (مجلس دوما الدولة)، وسن دستورا للإمبراطورية. لكن مجلس الدوما لم يكن يتمتع بسلطة تشريعية حقيقية، بل ظل يلعب دورا استشاريا فقط، وفق نظام يضمن الأغلبية لصاحبي الأراضي.

واستمر الحكم القيصري في مواجهة عدة قوى معارضة في آن واحد. وتمثل عدوه الأول في اللاحين الذين تميزوا بغليان كبير وتنظيم محمدود. وساهم صراعهم الدائم في إضعاف الملاكين الكبار والحكم القيصري.

أم في المدن، فقد تميزت الطبقة العاملة بمواجهتها المستمرة للبرجوازية والحكم القيصري. وأفرزت هذه المواجهة تنظيمات نقابية وسياسية عديدة، وكان من أهمها (الحزب العمالي الاشتراكي الروسي) الذي تأسس سنة 1898، وجمع في أول الأمر عددا من التيارات الاشتراكية الروسية.

وفي سنة 1903، انقسم الحب العمالي الاشتراكي الروسي إلى تيارين: منشفيك وبلشفيك. فكان المنشفيك، بزعامة بليخانوف ومارطوف، يرون ضرورة التحالف غير مشروط مع البورجوازية لتطوير النظام الرأسمالي في البلاد بتوسيع قاعدة البروليتايا، لأنهم اعتبروا أن المجتمع الروسي يغلب عليه الطابع الفلاحي ، ولم ينضج بعد للانتقال إلى الاشتراكية. أما البلشفيك برئاسة لينين فقد ألحوا على ضرورة تكوين حزب عمالي قوي ومضبط، والاستعداد للثورة الاشتراكية. كما أنهم ركزوا على التحالف مع صغار الفلاحين.

وكان نمو البورجوازية معرقلا بحكم كون الملاكين الكبار في الهرم الاجتماعي. وكان القيصر يحد من توسع مشاركتها في جهاز الدولة ومجلس الدوما. لذا مثل الحزب الدستوري الديمقراطي قوة معارضة ظلت تراقب بطموح كبير تطور الأحداث فتظهر تارة تقريبا للقيصر وتعرض تارة أخرى تحالفها للقوى الثورية.

ولقبت الامبراضطورية الروسية بسجن الشعوب لاخضاعها لعدد كبير من القوميات المختلفو على امتداد اراضيها الوروبية والأسيوية. فكانت الأراضي المستعمرة تمثل 17.4 مليون كيلومتر مربع، وبلغ عدد سكانها 33 مليون نسمة.

وجمعت الامبراطورية قوميات متعددة ومتنوعة من حيث الجنس واللغة والمعتقدات. كما تفاوتت فيما بينها في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي. فالمناطق الغربية مثلا، كانت تسير نحو التصنيع، في حين ظلت المناطق الجنوبية والشرقية تعيش في إطار العلاقات العوية والاقطاعية. وسخر القياصرة أراضي المستعمرات وشعوبها للرفع من المداخيل الجبائية بفرض الضرائب المرتفعة على الفلاحين الصغار، كما نزعوا منهم أراضيهم لتوزيعها على المعمرين الروس.

ومع توسع شبكة السكك الحديدية ازداد ارتباط القوميات بالنظام الاقتصادي المركزي، وتحولت إلى مصادر للمنتوجات الفلاحية والخامات الصناعية، وكانت شعوب المستعمرات تعاني من قمع شديد لثقافتها ولغتها ومعتقداتها.

فدفعت هذه الظروف كلها القوميات المختلفة إلى مواجهة الحكم القيصري والملاكين الكبار من أجل التحرر الوطني. واكتست هذه المواجهة أشكالا مختلفة ومتفاوتة، من حيث القوة والتنظيم والوعي، مساهمة في إضعاف الحكم القيصري.

1-2 عجلت هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى بقيام الثورة<8

أ‌- أطاحت ثوة فبراير 1917 بالنظام القيصري بعد استفحال الأزمة الداخلية

دخلت الامبراطورية الروسية الحرب العالمية الأولى بحكم ارتباط سياستها الخارجية بدول غرب أوروبا، وبهدف الحصول على أراضي جديدة على حساب النمسا والبلقان وتركيا. وعلى المستوى الداخلي، استهدف النظام القيصري خنق كل معارضة لسياسته والتخفيف من الاضرابات العمالية والتحركات الثورية التي تصاعدت ما بين 1912 و1914، وذلك بإثارة الشعور الوطني لدى الفلاحين والعمال الروس من أجل تشكيل تخالف وطني مقدس موجه نحو الخطر الخارجي.

واتخدت جل الأحزاب الوسية مواقف مؤيدة للحرب، واندمجت إلى جانبها حتى بعض التيارات اليسارية الممثلة للفئات الوسطى والفلاحين. في حين عارض الحزب البلشفي بشدة الدخول في الحرب داعيا لتحويلها إلى ثورة لإطاحة بالنظام القيصري وبالأنظمة الرأسمالية الأوروبية.

وفي نهاية سنة 1914/ أي بعد خمسة أشهر من بداية الحرب ، وصل عدد القتلى في الصفوف الروسية إلى 500 000 جندي. وفي سنة 1915 تراجعت القوات الروسية بمسافة 200 كيلومتر، وخسرت الامبراطورية أراضي بورونيا وليتوانيا، وأصبحت في حالة حصار فعلي.

وأثارت هذه الخسائر لدى الجنود والبحارة سخطا على القيادة، فازداد عدد الفارين من الجبهات بشكل ضخم، وخصصا في الجبهة الشمالية وفي أطول البلطيق. كما أدت هذه الوضعية إلى انتشار التمرد في صفوف الجيش.

ولم تستطع المصانع الروسية الاستجابة لحاجيات الجبهة من العتاد الحربي والدخيرة، وذلك رغم تحولها إلى مصانع حربية. كما عجزت البوادي عن توفير المواد الغدائية بسبب تجنيد الفلاحين. وتعطلت السكك الحديدية وتعرقل تزويد الجيش بالحد الأدنى من الأسلحة والمؤونة.

وفي نفس الوقت الذي عجز فيه الاقتصاد الروسي عن مواجهة متطلبات الحرب، اشتدت الأزمة الداخلية ووقع عبؤها على الفئات الواسعة من السكان. فكانت البلاد تعاني من نقص شديد في الحاجيات الملحة. فتضاعف ثمن الرطل الواحد من الخبز بست مرات، وثمن المتر الواحد من النسيج القطني 12 مرة، والنسيج اصوفي 20 مرة، عما كان عليه قبل بداية الحرب.

وهكذا امتصت الحرب كل موارد روسيا القيصرية. وعمت حركة الضرابات أهم مناطق البلاد، وصعد الفلاحون مطالبهم بالأرض عن طريق احراق ضيعات الاقطاعيين ولالستيلاء على الغلل. وظهرت بوادر القلق والتمرد في صفوف الجيش.

وفي هذه الظروف بحثت الحكومة القيصرية على الوسائل الازمة لتلافي الثورة. فكرت في عقد صلح مع ألمانيا حتى تتفرغ للمشاكل الداخلية. إلا أن ارتباط المصالح مع فرنسا وابريطانيا لم يسمح بذلك. فأصبح القيصر عاجزا عن مواجهة الموقف. فتخلت عنه العناصر الموالية له، وبدأت تفكر في إيجاد خلف له. غير أن الثورة كانت قد اندلعت بغضراب عمال مصنع (بوتيلوف) في 18 يناير 1917 في بتروغراد )سان بترسبورغ حتى سنة 1914)، ثم تحول ذلك إلى اضراب عام، وسارت صفوف المتظاهرين إلى وسط العاصمة منددة بالحكم القيصري ومطالبة بالخير والسلام.

وفي نهاية شهر فبراير 1917، انضم ما يزيد عن ستين ألفا من جنود حامية بتروغراد إلى جانب العمال. وعمت الانتفاضة كافة أنحاء العاصمة، الشيئ الذي اضطر القصر نيقولا الثاني إلى التخلي عن العرش في 2 مارس 1917.

فحاولت البورجوازية الانفراد بالحكم بتكوين حكومة مؤقتة برئاسة(الأمير لفوف) ثم (كرنسكي) وساهم إلى جانبها عناصر من الاشتركيين المعتدلين، في حين رفض البلشفييون التعامل مع البروجوازية. وتشكل بصفة موازية للحكومة سوفياتات- أي مجالس العمال بالمصانع ومجالس الفلاحين بالأرياف ومجالس الجنود بالحاميات وفي جبهات القتال – من أجل تكوين سلطة ثورية منبثقة عن هذه المجالس.

فتكون أول سوفيات للعمال والجنود بمدينة بتروغراد. وقاك باحتلال بنك الدولة ودار سك النقود ومحطات السكك الحديدية والتلففراف ودور الطباعة. كما أشرف على امداد المدينة بالمواد الغذئية.

وتشكلت سوفياتات مماثلة في موسكو ومناطق عديدة أخرى من البلاد الروسية. وبذلك أصبحت السلطة مزدوجة في أنحاء روسيا : فمن جهة، هناك الحكومة البرجوازية المؤقتة، ومن جهة أخرى هناك السوفياتات.